جعفر عباس يكتب: فترة محفورة في الذاكرة..
عندما كنا في المدرسة الأولية في بدين كان جميع عيال المدارس في جميع انحاء السودان يرددون نفس الأناشيد بنفس الألحان: لي قطة صغيرة.. نحن اذا جاء المطر نجري ونلعب بالزهر.. بلادي بلادي فداكِ دمي.. هاتي البلح يا نخلاتي. وكانت دروس الجغرافيا ملخصة في انشودة واحدة تبدأ ب”في القولد التقيت بالصديق/ أنعم به من فاضل صديق” ومن القولد الى ريرة والجفيل وود سلفاب وعطبرة وبابنوسة وغيرها، وفي دروس الطبيعة كان هناك نشيد يلخص عالم الطيور: نحن الطيور أيها الانسان/ بذا الجمال خصّنا الرحمن
كان التلميذ ينتقل من قلم الرصاص الى الريشة في السنة الثالثة الابتدائية، والريشة عبارة عن عود خشبي رفيع ومصقول في آخره سِنّة (بكسر السين) نحاسية صغيرة طرفها مشقوق يتم غمسها في المحبرة، وكان في طاولات الجلوس أخرام دائرية للمحابر، ويقوم الفراش بصنع الحبر في جردل ثم تعبئة كل محبرة، وعموما كانت الكتب والكراريس والاقلام وأدوات الهندسة تقدم مجانا للطلاب في جميع مراحل التعليم ما قبل الجامعي
كانت الشفخانة (المركز الصحي) قريبة من المدرسة، وكان المرضى من التلاميذ يسجلون أسماءهم في قائمة يحملها أحدهم ويقدمها لمساعد الحكيم، وكان هذا المساعد وقتها شخص “فقري” وعامل فيها “فقير”، وتأتي أليه شاكيا من نزلة برد فيقول لك كح، فتكح “بالقوة” فيكتب امام اسمك “متصنع” وترجع المدرسة وتنال عدة جلدات على التصنع حتى لو كنت “منزولا” فعلا، ولكن كان معلوما ان كثيرين يزوغون من حصص تسميع جدول الضرب او القرآن بالذهاب الى الشفخانة، وكان مساعد الحكيم ذلك وعندما تكون مصابا بحمى مثلا يأتي بصحن ويكتب فيه بعض الشخابيط ثم يغسلها بالماء ويجعلك تشربها (محاية)، او يجلسك على الأرض ويقرأ عليك بعض الكلمات ثم “يتُف” على رأسك، وعندما صرعني حصان خلال زفة ختان طفل من عائلة من “الأشراف”، أخذوني الى الشفخانة وبدلا من معالجة جروحي شرع الرجل في الهمهمة وال”تفاف” على وجهي ورأسي فصرخت وهربت منه جريا، فأعلن ان “جعفر دا يا مسكون يا شيوعي”
لم يكن الدافوري معروفا في بدين كلها، بل لم تكن كرة القدم معروفة خارج المدرسة، ثم جاء مدرس من صاي اسمه سري، وجعل كرة القدم لعبة شعبية بأن أشرك فيها بعض الشباب من حي أب جاسي، الذي كان حاضنة التعليم الرسمي والأهلي (الخلوة) في منطقتنا، وكان بالمدرسة ترتارات خشبية يتم توزيعها على الطلاب فيجرون بها الى مسافات بعيدة، وكانت هناك لعبة ال”رِنق ring” حيث تكون هناك شبكة تماثل شبكة التنس ويقف في كل قسم منها لاعب او اثنان ويتم تبادل رمي واستلام الرنق وهو حلقة دائرية ومفرغة في وسطها من المطاط ويتم حساب النقاط بعدد مرات الفشل في الالتقاط
في السنة النهائية (الرابعة) كانت دروس العصر إجبارية، وبلا مقابل لأن المدارس كانت تتنافس بشرف على توصيل طلابها الى المرحلة الوسطى، وكان طلاب نحو 15 مدرسة ابتدائية من سمت شمالا وحتى مقاصر جنوبا يتنافسون على 80 خانة موزعة على مدرستي البرقيق وأرقو، ورسبت في محاولتي الأولى للالتحاق بالمدرسة الوسطى وفي سنة الإعادة أكرمنا الله في بدين الأولية بسيد احمد ضرغام الحلفاوي ناظرا وعثمان سيد احمد كنة مدرسا لكل المواد فاكتسحنا قوائم القبول في البرقيق وأرقو (بعض أهلنا كانوا يسمون البرقيق كمبو، لأنها بدأت كمعسكر “كمبو” لإقامة مشروع زراعي عملاق)