جعفر عباس يكتب: هوامش على دفتر الغربة
كلما تألمت لأن الظروف حملتني على طلب الرزق خارج الوطن، تذكرت قول الامام علي كرم الله وجهه: “الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة”، ولكنني لم أحلم طوال سنوات اغترابي عن وطني بالثراء، ولم أفكر يوما ما في دخول سوق الأسهم والبورصات والمضاربات، ولم أفكر في شراء الأراضي بغرض الاتجار فيها او الاستثمار العقاري، وعرض علي كثيرون التكويش على قطع كثيرة من الأراضي في امتدادات عاصمتنا، ولكنني رفضت، والمعروف ان أهلي النوبيين رواد السكن العشوائي في العاصمة فقد تدفقوا في أعداد هائلة قبل سنوات على العزوزاب والدروشاب والكلاكلة وام بدة والفتيحاب والحاج يوسف وامتلكوا فيها البيوت (كنا ذات مرة في سرادق عزاء في الكلاكلة حيث التقينا عم إ. ع. الذي نهض مستأذنا لأنه ذاهب الى عزاء في الدروشاب، ثم أضاف: نفسي يوم امشي عزاء في الخرطوم 2 او العمارات)
تمكنت قبل نحو 30 سنة (يعني وأنا في ثالثة ابتدائي) من شراء ارض وتشييد بيت عليها في مربع 18 في الحاج يوسف من مكافأة نهاية خدمتي (والليلة)، بعد ان تركت العمل في ابوظبي متوجها الى قطر، وكانت أمي آمنة رحمها الله اسعد الناس بتملكي لذلك البيت واعتبرته دليلا على انني بدأت في حصاد “شقا الغربة”، ثم بدأ المغتربون في غزو الأحياء الجديدة (الرياض وكافوري والمنشية والطائف إلخ)، فانقلبت حجة آمنة عليَّ، وعلى الحاج يوسف (كانت تقول: هاج يوسف مِنا= حاج يوسف بتاع مين؟) مع ان 95% من اهلنا في العاصمة يعيشون هناك، ولم يهدأ لها بال حتى اشتريت ارضا في كافوري ثم شيدت بيتا عليها (وصرت هدفا للجنة إزالة التمكين 🤣)
أهم درس لازمني في الغربة هو ما قدمته لي حجة آمنة: ال خالي من الدين غني، وتعلمت من ذلك ان أعيش في حدود إمكانياتي: لا اقترض مالا من بنك او شخص، وبالطبع قد اضطر الى اقتراض مال من شخص ما في ظرف معين طارئ، ولكن فقط على ان اعيده اليه في خلال ساعات او أيام، ويكون الاقتراض في حدود ما عندي من موارد مالية، وهناك قلة من المغتربين يغرقون في الديون في أمور “فارغة وهايفة”، كامتلاك سيارات شديدة الفخامة تفوق قيمتها امكانياتهم المادية، او قضاء اجازات باذخة في بلدان أجنبية، او الزيارات المتكررة للفنادق الفخمة لتناول الوجبات بصورة شبه منتظمة فقط من باب التباهي، ولا أفهم لماذا اشتري طبق شواء في فندق بما يعادل 50 دولارا، بينما هذا المبلغ يكفي لشراء كذا كيلو لحم يكفي البيت ربما لشهر كامل (تذكرت أخونا عبد المجيد طه الحسن- من أبناء الحلفايا- الذي عاد ذات يوم الى البيت في الدوحة مرهقا ليرتاح قليلا ثم يعود الى العمل في الدوام المسائي، فإذا ببنته رانيا- وهي زولة لايووقة الى يوم الناس هذا، تبدأ الطن والزن: بابا عايزة شيش طاووق – دجاج مشوي بالتركية- شيش طاووووق.. واااا .. وطلبا لراحة البال والأذن انطلق عبد المجيد الى المطعم التركي ووجده مزدحما، ولكن وبحكم انه كان زبونا منتظما فان عامل المطعم سأله عن طلبه فقال: اعطيني كيلو طيط شاووق، فرد عليه الرجل: حنا من نبيع طيط يا أستاذ فما تسوي لنا إشانة سمعة
ولكن اعترف بأن الاغتراب جعلني “مفتري” في ناحية معينة: كان حلم حياتي يوما ما أن أأكل نصف دجاجة بمفردي، وسبحان الله فاليوم فإن الجلوس مع التوم هجو لساعتين أهون على قلبي من اكل فسفوسة من لحم الدجاج